السبت، فبراير 25، 2006

جلاسجو ١٩٩٧



ليـلـــــة ٌعـن ألـــفِ ليـلـــــة



البرد القارس يتخلخل في عظامي، والغيوم كأنها غاضبةٌ تصب ذاك الغضب على الأرض أمطاراً وأمطارا.. الضباب الكثيف بدوره يصارع المطر، والقطرات الغاضبة ما أن تسقط على الأرض حتى تحاول الارتداد والصعود مرةً أخرى فيصرعها الضباب فتسقط منكسرةً ذليلةً بعد هيج ارتدادها..

وضعت مفتاحي بالباب وأدرته يمنةً، و بيدي الأخرى حاولت فتح الباب إلا أنه كان لا يزال مقفلاً.. أدرت المفتاح مرةً ثانية وثالثة ورابعة، يمنةً ويسرى حتى طفح بيَ الكيل.. وقفت محتاراً.. إنه ثالث اسبوعٍ لي في الغربة.. كانت تلك هي أول أيامي في مدينة جلاسجو ببريطانيا، وبالتحديد في أكتوبر 1997، كنت واقفاً أمام باب بيت العائلة الأسكتلندية التي استضافتني في أول سنة، أناسٌ طيبون وخيرون.. إنها الثانية والنصف صباحاً.. لا أعتقد بأنه من الأدب في هذه الأسابيع الأولى أن أزعجهم في هذه الساعة المتأخرة من الليل بدق الجرس، أعتقد بأنهم ظنوا بأني لا زلت في البيت فقفلوا الباب من الداخل، وبمفتاحي بالطبع لا يفتح ذاك القفل.. لم تكن من عادتي أبداً السهر حتى هذه الساعة المتأخرة، وكان يضرب بي المثل في بيتهم من ناحية تنظيم الوقت وعدم السهر،حتى أن الأم كانت دائماً تطلب من ابنها (روبرت) بأن يستفيد من انتظامي.. أعذرهم فعلاً إن كانوا قد قفلوا الباب بحسن نية.

لا أستطيع الحراك من برودة الجو، ويعتريني شعورٌ غريب بأن الليلة لن تمر بهدوء وأنها ستشتد نحاسةً باشتداد البرد.. لماذا جنيت على نفسي بالقدوم لهذه الأرض الباردة، إن كان هذا حالي في أول أزمة لي في الغربة فما هو حالي بعد سنين حين ألتحق بالجامعة وأبدأ في دراسة الطب البشري؟ يجب أن أكون مسؤولاً وأتصرف بحكمة.. أخذت نفساً طويلاً استعداداً لمواجهة المجهول.. لا أدري لماذا تذكرت في تلك اللحظة مقولةٌ كنت قد فقدتها في أحد كهوف الذاكرة القديمة.. ما أقول في !دارٍ أولها بكاءٌ وآخرها فناء..

كانت تلك اللية بداية اجازة نهاية الاسبوع، وكنت قد خرجت لتوي من مقر تجمع شلتنا، شقة (ضاحي) الاماراتي، كان (ضاحي) يكبرنا سناً ويسكن في شقةٍ لوحده، أما نحن الثلاثة: أنا، و (حامد) البحريني، و (نواف) الكويتي كانت تلك سنتنا الأولى، وكنا نسكن مع عوائل مضيفة.. كنا قد اتفقنا نحن الأربعة على الذهاب إلى مدينة (بلاك بول) صباح غد.. قرر كل من (حامد) و(نواف) المبيت في شقة (ضاحي) تلك الليلة، أما أنا فاتفقت معهم بأني سأقابلهم في الثامنة صباحاً في شقة (ضاحي).. وها أنا قد رجعت لبيت العائلة، واقفاً عند الباب، محتاراً.. أعتقد أنه من الأفضل أن أرجع لشقة (ضاحي) وأقضي بقية الليلة هناك.. لا أريد أن أزعج العائلة.. سنة 1997 كانت قبل عصر ( الكل عنده موبايل)، وبطبيعة الحال لم أكن أملك أية وسيلة للاتصال بالشباب، وما كان علي الآن إلا البحث عن سيارة أجرة تقلني لشقة (ضاحي)..

الشارع الرئيسي يبعد عن البيت حوالي الربع ساعة مشياً، كان ذلك هو خياري الوحيد على الرغم من قسوة الجو والضباب الكثيف.. بدأت بالمشي والرياح ازدادت ضراوةً، وكأنها تعاندني وتعاكسني الاتجاه، المطر يزداد غزارةً وأنا أحاول حماية زجاج نظارتي الطبية من المطر، إلا أن المطر يجد وسيلةً للوصول حيث يريد! بدأت بالجري، لعل ذلك يخففف من شعوري بالبرد.. بدأت بصعود الهضبة التي تؤدي للشارع الرئيسي.. الأرض المبتلة تخدع توازني وأسقط، ثم أنهض وأردد في نفسي: ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر، ومن لا يصعد الهضبة يبيت في البرد والمطر.. الساعة قاربت الثالثة صباحاً وقد وصلت لبر الأمان.. وصلت لمحطة توقف الحافلة حيث توجد كابنية تحميني من المطر.. لم تكن هناك أية حافلات في هذه الساعة المتأخرة، ولم أملك خياراً إلا انتظار أي سيارة أجرة..وجدت نفسي أمشي في دائرة صغيرة داخل الكابينة وأطلق زفراتًٌ حارة في يدي لعل ذلك يدفؤني من البرد القارس.. الشارع يخلو تماماً إلا من سيارة يتيمة تمر ببطءٍ شديد، وأخرى بداخلها مجنونٌ يتحدى الضباب.. أين هي سيارات الأجرة؟ أما من فاعل خيرٍ ينقذني؟ ماذا لو لم تمر سيارة ..أجرة حتى الصباح؟ لا.. لن أزعج العائلة.. سأصل لشقة (ضاحي) مهما طال الانتظار...

يئست من طول الانتظار وبدأت أمشي ثم أجري متجهاً نحو الشقة! رحلة الحافلة من المحطة إلى شقة (ضاحي) في نصف ساعة، كم ياترى ستستغرق رحلة الأقدام؟ لا أريد التفكير الآن.. خلايا مخي عاجزةٌ عن إجراء هذه المعادلة الحسالبية، كل ما أعرفه هو أن الانتظار دون فعل شيء سيزيد من ظلمة الليل والبرودة، وأن أسناني بدأت تصطك ببعضها وأنا غير قادرٍ على منعها! ملابسي مبتلة حتى أخمص قدمي بالماء البارد.. أنفاسي تتلاحق وعضلات رجلي بدأ الإرهاق يعييها، كنت أدعوالله من أعماق قلبي أن أستيقظ فجأةً من سباتٍ طويل وأجد نفسي في فراشي الوثير في دبي وما تكون أيام جلاسجو القليلة إلا كابوساً ينتهي فوراً.. أغمظت عيناي وأنا أجري.. الجنون بدأ يسري في عروقي.. كنت أجري وعيناي مغمضةٌ.. سأعد إلى العشرة ثم أفتح عيناي.. فعلتها.. ومرةً أخرى أغمضت عيناي وأنا أجري ثم بدأت بالعد للعشرين.. الأرض المبتلة خدعت توازني زلقت قدماي فسقطت أرضاً..

لماذا أغمضت عيناي؟ لماذا يتخذ الانسان أحياناً قرارات غير واقعية؟ قد تستغرق رحلة الأقدام حتى الصباح! لا أعتقد بأن بدني يتحمل هذه البرودة! بدأت في الجري مرةً أخرى وأنا أقرأ كل ما أحفظه من القرآن وكل ما أعرفه من أدعيةٍ وصلوات.. اللهم أرسل لي سيارة الأجرة.. يالله! الآن فقط فهمت تلك القصة! قصة البحار الملحد الذي انقطعت به السبل وهو وحيداً في عرض البحر.. حين لم يجد أحداً يساعده وبدأ قلبه بالصراخ استنجاداً بشيءٍ أقوى من الطبيعة.. إنني أمر بنفس الموقف ولكني مسلمٌ والحمدلله.. يالله.. يالله أعدك أن لا أقرب المعاصي وأن أحافظ على وقت صلاتي.. النجدةُ النجدة..

لاحت لي سيارة الأجرة من بعيد على الطرف الآخر من الشارع، فبدأت كالمجنون أركض في عرض الشارع ملوحاً بيدي وصارخاً: (النجدة! النجدة!).. لا أعرف إن كانت تلك الفرحة يومها تفوقها أي فرحةً أخرى.. على الرغم من حالي المزري.. إلا أن وقوف السيارة لي كان له علي وقعاً عظيماً.. هكذا يفرح الفقراء حين يأتيهم أقل الرزق حتى وإن كانوا تحت خط الفقر يعيشون.. رمقني سائق الأجرة بنظرات غريبة وهو يقول: (لقد انتهت مناوبتي هذه الليلة منذ مدة، فإن كان طريقك يصادف طريقي أخذتك وإلا فلا!).. أحمد الله وأشكره بأن وجهتي كانت في طريقه، وعلى الرغم من ريبة نظراته إلا أنه وافق على توصيلي.. لم أكن حينها أفهم اللغة الجديدة جيداً وبخاصةً لكنة أهل (جلاسجو).. سائق الأجرة كان ثرثاراً كأكثر سائقي سيارات الأجرة في هذه المدينة.. استغربت لأنه لم يسألني عن السبب الذي يجعلني أركض وحيداً في الظلمة والمطر الغزير! يقال إذا عُرف السبب بطل العجب! كل ما فهمته منه هو أنه ليس على علاقة طيبة مع زوجته وإن تأخر الليلة فسيحصل ما لاتُحمد عاقبته..

طلبت منه الوقوف بجاني الصراف الآلي الذي يبعد قليلاً عن الشقة، فلم تكن في محفظتي إلا ورقة خمسة جنيهات.. نزلت من السيارة وكان الجو قد هدأ قليلاً ودقات قلبي بدأت بالاطمئنان، إلا أن الصراف الآلي لم يكن يعمل، فطلبت من السائق أن يأخذني إلى الآلة الثانية، ويالعجبي لم تكن تعمل هي الأخرى! لم يسر السائق لذلك وسألني والشرار يفور في عينيه إن كانت لدي أية نقود، فما كان مني إلا أن سلمته الجنيهات الخمس بتردد.. أخذها ساخطاً على الرغم من أنها أقل عن نصف السعر، وانطلق بعيداً بعد أن شتمني! بدأت بالمشي مبتسماً نحو الشقة.. كانت الساعة قد قاربت الرابعة والنصف صباحاً حين وصلت إلى عتبة العمارة التي كان يقطن فيها (ضاحي).. دلفت من باب العمارة الذي كان دائماً مفتوحا، وبتثاقل صعدت السلالم للطابق الثالث.. جرس الشقة كان عاطلاً، وكسل (ضاحي) أثقله عن إصلاحه.. طرقت الباب بهدوء في البداية، ثم بقوة.. لا حياة لمن تنادي.. النوم سلطان! الظلمة الحالكة في الممر وصوت صفير الهواء عند دخوله من باب العمارة يشعلان الخوف في قلبي.. أخذت نفساً طويلاً واستعذت بالله من الشيطان الرجيم وطرقت الباب بقوةٍ وأنا أصرخ: (ضاحي)، (حامد)، (نواف).. لا حياة لمن تنادي..

بدأ اليأس بالتسلل إلى عروقي، تذكرت أني حين كنت بجانب الصراف الآلي الأول مرت سيارة شرطة.. سأذهب لنفس المكان وانتظر سيارة شرطة أخرى، لعلهم يأخذوني لفندقٍ قريبٍ أو بعيد أبيت فيه الليلة، أو لعلي أجد أجرةٌ أخرى.. ما كان هدوء الجو إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة.. ازدادت الرياح ضراوةً والغيوم الآن غاضبةً أكثر من ما مضى.. دخلت صندوق الهاتف.. لعله يحميني من البرد والمطر.. كان جسمي يرجف برداً، والخوف من المجهول قد سيطر علي.. إنها سيارة الشرطة! أخيراً! خرجت من الصندوق ولكن للأسف لم يلمحوني أبداً.. أطرقت برأسي للأرض واتجهت نحو عتبة العمارة وجلست عند الباب، أحتمي من المطر.. أغمضت عيني لبرهة وكدت أن أسقط في النوم، إلا أني حاولت المقاومة...

غشاءٌ باردٌ يغطي وجهي، أرى صوراً تتلاحق، وأصواتٌ مألوفة تتلاحق هي الأخرى.. دموعٌ تدخل عيناي! ياللعجب الدموع عادةً تخرج من العين وليس العكس، رأسي يستند على شيءٍ صلب ورائحةٌ غريبة تزعجني.. أحاول الحراك ولكن يدي ثقيلة.. حركت يدي باتجاه وجهي وإذا بي أتحسس وجهي مبللاً بالماء وقطرات المطر كالإبر في وجهي.. فتحت عيناي مستغرباً.. رأسي على الرصيف! لقد خطفني النوم وألقى بي على أرضية الرصيف.. نهضت بسرعة غير مصدقٍ لما حدث.. دخلت العمارة (ونفضت ما علق بي من أخلة الرصيف! صعدت السلالم للشقة وأسندت ظهري لباب شقة (ضاحي) ..واستسلمت للنوم..

فتحت عيناي وإذا هي الساعة السابعة صباحاً.. لم يكن هذا حلماً بل لا زالت ملابسي مبللة! ولم تزل رائحة الرصيف تنخر في أنفي! سمعت أصوات الشباب في الشقة وكلهم نشاط وحيوية.. بدأت الحياة تسري في عروقي.. كل ما استطعت فعله هو طرق الباب والصراخ: (حامد!).. لا أدري لماذا اخترت أن أناديه هو دون الآخرين، لعله كان أقربهم إلي.. سمعته يقول ضاحكاً كعادته مرحاً دائما: ا

ا(هاذي بوعلي.. صوته وكأنه لا زال نائماً)! فتح الباب فنهضت بصعوبة وأردت أن أقول شيئاً إلا أن الكلمات التي خرجت من فمي كانت همهمات لم أفهمها حتى أنا.. الدهشة علت وجه (حامد) وخرجت عيناه من مقلتيها، قال في تردد: (بوعلي.. أفا والله أفا!.. تأتي هنا وأنت سكران! أنت آخر من توقعته أن يكون خماراً.. إن الرائحة النتنة تفوح منك فوحاً!) لماذا أساء الظن بي؟ لماذا؟ حاولت أن أشرح له موقفي.. إلا أني لم أستطع إلا أن أتمتم: ( عيب! أعرف ربي)!

لا أعتقد أنه صدقني بدايةً، ولكنه أدخلني للصالة، ولم يكن (ضاحي) و(نواف) بأقل استغراباً من (حامد).. أعطوني عدة بطانيات.. وقدم لي (ضاحي) شراباً ساخناً.. بدأت باسترداد وعيي وذهني .. لم أقوى على شرح ما حصل إلا أني طلبت من (ضاحي) ملابس بديلةً، وقلت لهم: (الله معاكم.. أما أنا فسأنام هنا الآن.. وحين ترجعون الليلة أوقظوني!) استسلمت للنوم اللذيذ أمام المدفئة.. وبالفعل كنت لا أزال نائماً حين رجعوا هم قبل منصف الليل.. أوقظني الثلاثة معاً ضاحكين قائلين :(عيب.. أعرف ربي!).. شرحت لهم كل ما حدث بالتفاصيل المملة.. ضحكت كثيراً على موقف (حامد) حين رآني عند الباب.. ولا زلت أضحك حتى يومي هذا كلما تذكرت تلك الليلة.. ليلة عن ألف ليلة..

* * *

مرت السنين وفي آخر يومٍ لـ (نواف) في بريطانيا قبل رجوعه للكويت قال لي متردداً: (اسمحلي اذا كنا غلطنا عليك.. وإن كنت لا تزال تذكر ليلتك المنحوسة في جلاسجو.. فإنني في تلك الليلة سمعت طرقات الباب وصراخك ولكنني رجحت بأنها حلمٌ مزعجٌ و أني لن أسمح له أن يسرق مني نومي اللذيذ بجانب المدفئة.. كانت بالفعل ليلة باردة جداً!) لم يكن مني إلا أنني ابتسمت ثم لكمته بقبضة يدي بكل ما أوتيت من قوة على كتفه قائلاً: (أتمنى أن لا تنسى تلك الحادثة) لا أعتقد بأن ردة فعلي أسرته أبداً.. يستاهل! أعتقد بأنها ردة فعل طبيعية! أليست كذلك؟