تســـــــــــاؤل
براعمٌ تتفتح بيننا
عبقها سحرٌ، ونظراتها ملؤها البراءة
أطفالٌ تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة ربيعاً
سبعةٌ كان عددهم
في صيف سنة 1996 كانوا سبعةً، سبعة براعم في صفٍ واحد
لا أدري لماذا لم يدرس في ذاك الصف مدرساً إلا واعتذر عن اكمال هذا المشوار
مجرد صفٍ يتم فيه تحفيظ الأطفال آياتٌ من الذكر الحكيم
طلب مني صاحبي أن أجرب يوماً واحداً فقط.. قد لا يروق لي التدريس، وقد تأخذني مشاغل أخرى.. فقط أرادوني كمدرساً مؤقتاً
راقت لي الفكرة.. ووافقت على الفور
مجرد سبعة أطفال
وأنا المدرس الآمر الناهي
ما أسهل تلك المهمة
وفي أول يوم
عند دخولي الصف
كان الأطفال يلهون ويلعبون كلٍ في فلكه يسبح.. يالبرءتهم
لم ينتبهوا لدخولي.. أو ربما لم يهمهم الأمر
انتظرت لدقيقة.. دقيقتين.. ثلاثة.. خمسة
تظاهرت بتصفح كتاباً بين يدي
!لا زال الأطفال يلهون.. بل زادت حركتهم
!دقيقةً بعد دقيقة كان الأطفال يتجاهلوني أكثر فأكثر
تذكرت كيف كان جدي ينبهنا بقدومه ..(إحم إحم).. قلتها بصوتٍ عالٍ كي يسمعها الجميع.. ولكن لا حياة لمن تنادي
!قال أحدهم (الأستاذ يقول إحم إحم.. هاهاها) .. وضحك الجميع
!ياإلهي.. إن الأطفال يستهزؤون بي
يجب علي أن أسيطر على الوضع
كيف؟ كيف؟
:قلت لهم بصوتٍ عالٍ لم أستطع إخفاء نبرة غضبٍ بسيطة فيه
أنا المدرس الجديد.. فليرجع الجميع لمقاعدهم.. سنبدأ الدرس حالاً
شعرت بوغزة تأنيب حين أدركت أن بعضهم شعر بالخوف من لهجتي الآمرة
جلس الجميع.. سأبدأ الدرس الآن
يا إلهي.. إن الوقت يمر بسرعةٍ خرافية.. لم يبق من زمن الحصة إلا خمسة عشرة دقيقة
سألتهم عن أسماؤهم ثم بينت لهم بأني سأبدأ في تلاوة الآيات المخصصة للحفظ ومن ثم سنقرؤها جميعاً معأ
:بدأت بالتلاوة
.....أعوذ بالله من الشيطان الــــــ
:قاطعني أحدهم بكل براءة
أستاذ كيف شكل الشيطان؟؟
توجهت جميع نظرات الأطفال نحوي.. وكأني العالم بخبايا الأمور.. كيف لي أن أعرف ماهو شكل الشيطان؟ كيف أرد على هذا الاستفسار البرئ؟
،صبغت نظراتي وتعبيرات وجهي بصبغة الثقة
:قلت
بالفعل، سؤال ذكي جداً، من منكم أيها الأطفال يعرف شكل الشيطان؟
لعدة ثوانٍ كان الصمت سيد المكان
!!كان عقلي يبحث عن حلٍ لهذه المعضلة.. لا أستطيع أن أجيب على أول سؤالٍ لي كمدرس
قال أحد الأطفال قاطعاً حبل الصمت: أنا أعرف شكل الشيطان
:وتوالت الهتافات هنا وهناك
!أنا رأيته! أخي رآه! أختي كلمته! أنا أراه كل يوم
مازادت تلك الهتافات من حيرتي إلا حيرةً مضاعفة
قلت لهم إذن كيف شكله؟
بدأ الأطفال الافتاء في تلك المسألة، لا أذكر ما قالوه اليوم، فقط أذكر وصف أحدهم
كان أصغرهم سناً
أصغرهم حجماً
أكثرهم براءةً
وأكثرهم صمتاً
كان الجميع يتكلم ويبدي رأيه إلا هو… صامتاً، رافعاً يده، طلبت من الجميع السكوت
: سألته
(أتعرف أنت شكل الشيطان؟)
:أخذ يومئ برأسه إيجاباً لعدة ثوانٍ، ثم قال ببطءٍ روائي اصطنع فيه لهجة تخويف
(استـــاذ، الشيطـــان مــربـــــــــع أســــود كبيــــــــر، وعنــده أذون حمـــرة كبيـــرة مثل الفيــــــل)
!كدت أن أنفجر ضاحكاً، إن مخيلة هذا الطفل واسعةً جداً، وفي يومٍ من الأيام حتماً سيصبح مهندساً
!لا أدري كيف توصلت إلى الجواب في تلك اللحظة
:قلت لهم
..لا أحد منا يرى الهواء، ولكن كلنا نحس به
..لا أحد يستطيع أن يرى رائحة العطر، ولكننا نشمها
الشيطان نحس به ولكننا لانراه ولا نعرف شكله
حين يحين وقت الصلاة وتطلب الأم من ابنها أن يصلي، يقول هو أحياناً (انشالله)، وفي أحيانٍ أخرى يتثاقل يقول (لحظة/ دقيقة/ بعد شوي).. هذا الكسل والتثاقل هو من صنع الشيطان، حينها نحس بالشيطان ولكنا لا نراه
بحثت في أعينهم.. هل ياترى أقنعتهم بذاك الجواب.. وهل ياترى فهموا تلك الفلسفة المبسطة؟
ضرب الجرس معلناً نهاية الحصة.. سألني الأطفال: أستاذ، هل ستأتي غذاً لتدريسنا؟
ابتسمت ثم أومأت برأسي ايجاباً
لقد كنت مخطئاً حين ظننتهم مجرد أطفالٌ تسهل السيطرة عليهم.. إنهم عقولٌ متفتحة، وكتلةٌ من التساؤلات البريئة
لم تكن بالمهمة السهلة
لقد كانت تجربةٌ فريدة
..تجربةٌ أتمنى أن أكررها في المستقبل